فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)}.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس} قال: صدقوا كما صدق أصحاب محمد أنه نبي ورسوله، وأن ما أنزل عليه حق {قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء} يعنون أصحاب محمد {ألا إنهم هم السفهاء} يقول: الجهال {ولكن لا يعلمون} يقول: لا يعقلون.
وأخرج ابن عساكر في تاريخه بسندٍ واهٍ عن ابن عباس في قوله: {آمنوا كما آمن الناس} قال أبو بكر وعمر وعثمان وعلي.
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله: {كما آمن السفهاء} قال: يعنون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخرج عن الربيع وابن زيد. مثله. اهـ.

.فوائد بلاغية:

.قال في صفوة التفاسير:

البلاغة:
تضمنت الآيات الكريمة وجوها من البلاغة والبديع نوجزها فيما يلى:
أولا: المبالغة في تكذيب المنافقين في دعوى الإيمان {وما هم بمؤمنين} وكان الأصل أن يقول: وما آمنوا ليطابق قوله: {من يقول آمنا} ولكنه عدل عن الفعل إلى الاسم، لإخراج ذواتهم من عداد المؤمنين، وأكده بالباء للمبالغة في نفي الإيمان عنهم.
ثانيًا: الاستعارة التمثيلية {يخادعون الله} شبه حالهم مع ربهم في إظهار الإيمان وإخفاء الكفر، بحال رعية تخادع الملك، واستعير اسم المشبه به للمشبه بطريق الاستعارة، أى يعملون عمل المخادع الذي يضحك على نفسه.
ثالثا: صيغة القصر {إنما نحن مصلحون} وهذا من نوع قصر الموصوف على الصفة أى نحن مصلحون ليس إلا.
رابعا: الكناية اللطيفة {فى قلوبهم مرض} المرض في الأجسام حقيقة وقد كنى به عن النفاق لأن المرض فساد للبدن، والنفاق فساد للقلب.
خامسا: تنويع التأكيد {ألا إنهم هم المفسدون} جاءت الجملة مؤكدة بأربع تأكيدات {ألا} التي تفيد التنبيه، وإن التي هي للتأكيد، وضمير الفصل هم ثم تعريف الخبر {المفسدون} ومثلها في التأكيد {ألا إنهم هم السفهاء} وهذا رد من الله تعالى بأبلغ رد وأحكمه.
سادسا: المشاكلة:
{الله يستهزئ بهم} سمى الجزاء على الاستهزاء استهزاء بطريق المشاكلة وهى الاتفاق في اللفظ، مع الاختلاف في المعنى.
سابعًا: الاستعارة التصريحية {اشتروا الضلالة بالهدى} المراد استبدلوا الغي بالرشاد، والكفر بالإيمان، فخسرت صفقتهم ولم تربح تجارتهم، فاستعار لفظ الشراء للاستبدال ثم زاده توضيحًا بقوله: {فما ربحت تجارتهم} وهذا هو الترشيح الذي يبلغ بالاستعارة الذروة العليا من البيان.
ثامنا: التشبيه التمثيلى {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا} وكذلك في {أو كصيب من السماء فيه ظلمات} شبه في المثال الأول المنافق بالمستوقد للنار، وإظهاره الإيمان بالإضاءة، وانقطاع انتفاعه بانطفاء النار، وفى المثال الثانى شبه الإسلام بالمطر، لأن القلوب تحيا به كحياة الأرض بالماء، وشبه شبهات الكفار بالظلمات، وما في القرآن من الوعد والوعيد بالرعد والبرق... الخ قال الفخر الرازي: والتشبيه هاهنا في غاية الصحة، لأنهم بإيمانهم أولا اكتسبوا نورا، ثم بنفاقهم ثانيا أبطلوا ذلك النور، ووقعوا في حيرة عظيمة، لأنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين، لخسران نفسه أبد الآبدين.
تاسعًا: التشبيه البليغ {صم بكم عمي} أي هم كالصم، وكالبكم وكالعمى، في عدم الاستفادة من هذه الحواس، حذفت أداة التشبيه ووجه الشبه فأصبح بليغا، كقول القائل: هو بدر، وقول الشاعر:
كأنك شمس والملوك كواكب ** إذا طلعت لم يبد منهم كوكب

عاشرا: المجاز المرسل {يجعلون أصابعهم في آذانهم} وهو من إطلاق الكل وإرادة الجزء، أى رؤوس أصابعهم، لأن دخول الأصبع كلها في الأذن لا يمكن، ففيه مجاز بالجزئية.
الحادى عشر: توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات، وهذا له وقع في الأذن حسن، وأثر في النفس رائع، مثل {بما كانوا يكذبون} {إنما نحن مصلحون} {ويمدهم في طغيانهم يعمهون}. إلخ. وهو من المحسنات البديعية. اهـ.

.قال في إشارات الإعجاز:

{وَإذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا أنهم هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لايَعْلَمُونَ}.
اعلم! أن وجه نظم هذا النوع بالنوع الأول:
من حيث انهما نصيحة وارشاد؛ عطف الأمر بالمعروف والتحلية والترغيب، على النهي عن المنكر والتخلية والترهيب.
ومن حيث انهما من الجناية؛ عطف تسفيههم للمؤمنين وغرورهم على افسادهم، كما ربط افسادهم بفسادهم اللاتي كل منها غصن من شجرة زقّوم النفاق.
وأما وجه النظم بين جمل هذه الآية:
فاعلم! أنه لما قيل: {وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس} وأشير بهيئاتها إلى وجوب النصيحة على سبيل الكفاية بايمان خالص اتباعا للجمهور الذين هم الناس الكُمّل ليأمرهم الوجدان دائما بهذا الأمر، حكى وقال: {قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء} إشارة إلى تمردهم وغرورهم ودعواهم أنهم على الحق كما هو شأن كل مبطل يرى باطله حقا ويعلم جهله علما؛ إذ بالنفاق تفسَّد قلبُهم، وبالفساد نشأ غرورٌ وميلُ افساد، وبحكم التفسّد تمردوا، وبحكم الافساد يقول بعضهم لبعض متناجيا بالاضلال، وبحكم الغرور يرون شدة الديانة وكمال الإيمان المقتضيين للاستغناء والقناعة سفالة وسفاهة وفقرًا. ثم بحكم النفاق ينافقون في كلامهم هذا أيضًا؛ إذ ظاهره: كيف نكون كالسفهاء ولسنا مجانين ونحن أخيار كما تطلبون؟ وباطنه كيف نكون كالمؤمنين الذين أكثرهم فقراء وهم في نظرنا سفهاء تحزبوا من أوْباش الأقوام؟ وعليك التطبيق بين دقائق الجزئين من الشرطية. ثم القمهم الحجر بقوله: {ألا أنهم هم السفهاء}؛ إذ من كان متمردًا بهذه الدرجة وجاهلا بجهله فحقهم الاعلان بين الخلق وتشهيرهم بانحصار السفاهة وانه من الحقائق الثابتة، وأن تسفيههم لسفاهة أنفسهم.. ثم قال: {ولكن لايعلمون} إشارة إلى أنهم جاهلون بجهلهم فيكون جهلا مركبًا فلا يجديهم النصيحة، فلابد أن يعرض عنهم صفحًا؛ إذ لا يفهم النصيحة إلا من يعلم جهلَه.
وأما وجه النظم في هيئات كل جملة جملة:
ففي جملة {وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس} لفظ {إذا} بجزميته رمز إلى لزوم الإرشاد بالأمر بالمعروف.. وبناء المفعول في {قيل} إيماء إلى أن وجوب النصيحة على سبيل الكفاية كما مر.
ولفظ {آمنوا} بدل أخلصوا في ايمانكم إشارة إلى أن الإيمان بلا إخلاص ليس بايمان.
ولفظ {كما آمن} تلويح بالأسوة الحسنة وحسن المثال ليخلصوا على منواله.
وفي لفظ {الناس} نكتتان: وهما السبب في جعل الوجدان آمرًا بالمعروف دائما؛ إذ {كما آمن السفهاء} يترشح بفاتبعوا جمهور الناس إذ مخالفة الجمهور خطأ من شأن القلب أن لا يقدم عليه، وأيضا يلوح بانهم هم الناس فقط كأن من عداهم ليسوا بانسان إلا صورة، إما بترقى هؤلاء في الكمالات وانحصار حقيقة الإنسان ية عليهم وإما بتدني اولئك عن مرتبة الإنسانية.
اما جملة {قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء} التي مآلها: لا نقبل النصيحة كيف نكون كهؤلاء الأذلاّء؛ إذ هم في نظرنا سفهاء ولا نقاس نحن معاشر أهل الجاه عليهم.. ففي لفظ {قالوا} رمز إلى تبرئة النفس وترويج المسلك والاستغناء عن النصيحة والغرور والدعوى.. وفي لفظ {أنؤمن} بالاستفهام الانكاريّ إشارة إلى شدة تمردهم في جهلهم المركب، كأنهم بصورة الاستفهام يقولون: أيها الناصح راجع وجدانك هل ترى انصافك يقبل ردّنا.؟ ثم أن في متعلق {قالوا} وجوهًا ثلاثة مترتبة؛ أي: قالوا لأنفسهم، ثم لأبناء جنسهم، ثم لمرشدهم، كما هو شأن كل متنصح إذا نصحه الناصح، فاول الأمر يشاور مع نفسه، ثم يحاور مع ابناء جنسه، ثم يراجعك بنتيجة محاكمتهم. فعلى هذا لما قيل لهم ما قيل راجعوا قلوبهم المتفسدة ووجدانهم المتفسخ فاشارت عليهم بالانكار، فقالوا مترجمين عما في ضميرهم، ثم راجعوا بنظر الافساد إلى اخوانهم، فاشاروا عليهم أيضًا بالانكار فأخذوا بنجواهم ومحاورتهم، ثم رجعوا بطريق الاعتذار والسفسطة إلى الناصح فشاغبوا وقالوا: بيننا فرق لا نقاس عليهم إذ هم فقراء مضطرون مجبورون فشدتهم في الديانة وتصوّفهم بالاضطرار. اما نحن فأهل عزة وجاه فبحكم الغرور يحيلون الناصح على انصافه. وبحكم الخداع والحيلة يتكلمون بكلام ذي لسانين، أي أيها المرشد! لاتظننا سفهاء ولانكون كالسفهاء في نظركم، بل نفعل كما يفعل المؤمنون الخلص. مع أن مرادهم باطنًا: لانكون كهؤلاء المؤمنين الفقراء؛ إذ لا اعتداد بهم في نظرنا. ففي هذا اللفظ رمز خفيّ إلى فسادهم وافسادهم وغرورهم ونفاقهم.
{كما آمن السفهاء} أي الذين تظنونهم الناس الكاملين هم في نظرنا اذلاء فقراء مجبورون مع كثرتهم، كلٌ منهم سفيهُ قوم. ففي دعواهم الفرق في القياس إشارة إلى أن الاسلامية كهف المساكين وملجأ الفقراء وحامية الحق وحافظة الحقيقة ومانعة الغرور وقامعة التكبّر، وما مقياس الكمال والمجد إلا هي.. وأيضًا في الفرق إشارة إلى أن سبب النفاق في الأغلب هو الغرض والغرور والتكبر كما يفسره: {وما نَريكَ اتَّبَعَكَ إلا الَّذيِنَ هُمْ اَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ}. وأيضًا في الفرق إشارة خفية إلى أن الاسلامية لاتصير وسيلة التحكم والتغلب في أيدي أهل الدنيا والجاه؛ بل إنما هي واسطة لإِحقاق الحق في أيادي أهل الفقر والضرورة خلاف سائر الأديان. ويشهد على هذه الحقيقة التأريخُ.
أما جملة {ألا أنهم هم السفهاء} فاعلم! أن القرآن الكريم إنما أكثر من التشديد والتشنيع على النفاق لأجل أن أكثر بليات العالم الاسلامي من أنواع النفاق.. ثم أن لفظ {ألا} للتنبيه وتشهير سفاهتهم على رؤوس الأشهاد، ولاستشهاد فكر العموم على سفاهتهم. وأصل معنى {ألا} ألا تعلمون أنهم سفهاء؟ أي: فاعلموا.. ثم أن أنّ مرآة الحقيقة ووسيلة إليها كأنه يقول: راجعوا الحقيقة لتعلموا أن سفسطتهم الظاهرية لا أصل لها. ثم لفظ {هم} للحصر لرد تبرئة أنفسهم، ودفع تسفيههم للمؤمنين الذي اشاروا إليه ب {كما آمن السفهاء} أي أن السفيه مَن ترك الآخرة بالغرور والغرض واللذة الفانية دون من أشترى الباقي بترك الهوسات الفانية. ثم إن الألف واللام في {السفهاء} لتعريف الحكم أي معلوم أنهم سفهاء. وللكمال أي كمال السفاهة فيهم.
أما {ولكن لا يعلمون} ففيه إشارات ثلاث:
إحداها:
أن تمييز الحق عن الباطل وتفريق مسلك المؤمنين عن مسلكهم محتاج إلى نظر وعلم، بخلاف افسادهم وفتنتهم، فإنه ظاهر يحس به مَن له أدنى شعور. ولهذا ذيّل الآية الأولى ب {ولكن لا يشعرون}.
والثانية:
أن {لا يعلمون} وأمثالها من فواصل الآيات من {لا يعقلون} و{لا يتفكرون} و{لا يتذكرون} وغيرها تشير إلى أن الاسلامية مؤسسة على العقل والحكمة والعلم. فمن شأنها أن يقبلها كل عقل سليم لا كسائر الأديان المبنية على التقليد والتعصب. ففي هذه الإشارة بشارة كما ذكرت في موضع آخر.
والثالثة:
الإعراض عنهم وعدم الاهتمام بهم، إذ النصيحة لا تجديهم، إذ لايعلمون جهلَهم حتى يتحرّوا زوالَه. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
الكلام عليها كالكلام على التي قبلها.
و{آمنوا} فعل وفاعل، والجملة في محل رفع لقيامها مقام الفاعل على ما تقدم في {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض} [البقرة: 11] والأقوال هناك تعود هُنَا.
والكاف في قوله: {كما آمن} في محلّ نصب.
وأكثر المعربين يجعلون نعتًا لمصدر محذوف، والتقدير: آمنوا إيمانًا كإيمان النَّاس، وكذلك يقولون في: سير عليه حثيثًا: أي سيرًا حثيثًا وهذا ليس مذهب سيبويه، إنما مذهبه في هذا ونحوه أن يكون منصوبًا على الحال من المصدر والمضمر المفهوم من الفعل المتقدم.
وإنما أحوج سيبويه إلى ذلك أن حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه لا يجوز إلاَّ في مواضع محصورة، ليس هذا منها، فتلك المواضع: أن تكون الصفة خاصة بالموصوف، نحو: مررت بكاتب.
أو واقعة خبرًا نحو: زيد قائم.
أنو حالًا نحو: جاء زيد راكبًا.
أو صفة لظرف نحو: جلست قريبًا منك.
أو مستعملة استعمال الأسماء، وهذا يحفظ ولا يُقَاس عليه، نحو: الأبْطَح والأَبْرَق وما عدا هذه المواضع لا يجوز فيها حذف المَوْصوف؛ ألا ترى أنَّ سيبويه منع لا ماء ولو باردًا، وإن تقدّم ما يدلُّ على الموصوف، وأجاز: إلا ماء ولو باردًا؛ لأنه نصب على الحال.
وما مصدرية في محل جَرّ بالكاف، و{آمَنَ النَّاسُ} صلتها.
واعلم أنَّ ما المصدرية توصَلُ بالماضي أو المضارع المتصرّف، وقد شَذَّ وصلها بغير المتصرف في قوله: الطويل:
بِمَا لَسْتُمَا أَهْلَ الخِيَانَةِ والغَدْرِ

وهل توصل بالجمل الاسمية؟ خلاف، واستدل على جوازه بقوله: الكامل:
وَاصِلْ خَلِيلَكَ ما التَّواصُلُ مُمْكِنٌ ** فَلأَنْتَ أَوْ هُوَ عَنْ قَلِيلٍ ذَاهِبُ

وقال الآخر: البسيط:
أَحْلاَمُكُمْ لِسِقَامِ الجَهْلِ شَافِيَةٌ ** كَمَا دِمَاؤُكُمُ تَشْفِي مِنَ الكَلَبِ

وقول الآخر: الوافر:
فإِنَّ الحُمْرَ مِنْ شَرِّ المَطَايَا ** كَمَا الحَبِطَاتُ شَرُّ بَنِي تَمِيمِ

إلاّ أن ذلك يكثر فيها إذا أفهمت الزمان؛ كقوله: الكامل:
وَاصِلْ خَلِيلَكَ

البيت.
وأجاز الزَّمخشري وأبو البقاء أن تكون ما كافّة لالكاف عن العمل.
مثلها في قولك: ربما قدم زيد، ولا ضرورة تدعو إلى هذا؛ لأن جعلها مصدريةً مبقٍ لالكاف على ما عهد لها من العمل، بخلاف جعلها كافة.
والألف واللام في {النَّاس} تحتمل أن تكون للجنس، وفيها وجهان.
أحدهما: المراد الأوس والخزرج؛ لأن أكثرهم كانوا مسلمين، وهؤلاء المنافقون كانوا منهم، وكانوا قليلين، ولفظ العموم قد يُطْلق على الأكثر.
والثاني: المُرَاد جميع المؤمنين؛ لأنهم هم النَّاس؛ لكونهم أعطوا الإنسانية حقَّهَا؛ لأن فضل الإنسان على سَائِرِ الحيوان بالعَقْلِ المرشد.
وتحتمل أن تكون الألف واللام للعهد، فيكون المراد كما آمن الرسول ومن معه وهم ناسٌ معهودون، أو عبد الله بن سلام وغيره من مؤمني أهل الكتاب.
الثاني: المُرَاد به النَّبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ الناس على مَا آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} [النساء: 54].
أي: يحسدون النبي- عليه الصلاة والسلام- على النِّساء.
الثَّالث: الناس: المؤمنون خاصّة قال تعالى: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} [آل عمران: 97]، ومثله: {يَا أَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21].
الرابع والخامس: كُفَّار قريش، وزيد بن مسعود، قال تعالى: {الذين قَالَ لَهُمُ الناس} [آل عمران: 173] يعني نَعِيم المكّي: {إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ} [آل عمران: 173].
السادس: آدم- عليه الصلاة والسَّلام- قال تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس} [البقرة: 199] يعني: آدم عليه الصلاة والسلام.
السابع: الرَّجَال؛ قال تعالى: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} [غافر: 57] يعني: الرجال.
فصل في إعراب الآية:
الهمزة في {أنؤمن} للإنكار، والاستهزاء، ومَحَلّ {أنؤمن} ب {قالوا} وقوله: {كَمَا آمَنَ السفهاء} القول في الكاف وما كالقول فيهما فيما تقدّم، والألف واللام في {السفهاء} تحتمل أن تكون للجنس أو للعهد، وأبعد من جعلها للغَلَبَة كالعيّوق؛ لأنه لم يغلب هذا الوصف عليهم، بحيث إذا قيل: السفهاء فيهم منهم ناس مخصوصون، كما يفهم من العيوق كوكب مخصوص.
والسَّفه: الخِفَّة، يقال: ثوب سفيه أي: خفيف النَّسْج، ويقال: سفهت الرِّيح الشيء: إذا حَرَّكته؛ قال ذو الرمّة: الطويل:
جَرَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ رِيَاحٌ تَسَفَّهِتْ ** أَعَالِيَهَا مَرَّ الرِّيَاحِ النَّوَاسِمِ

وقال أبو تمام: الوافر:
سَفِيهُ الرُّمْحِ جَاهِلُهُ إذَا مَا ** بَدَا فَضْلُ السَّفيهِ عَلَى الحَلِيمِ

أراد سريع الطَّعن بالرُّمْحِ خفيفه، وإنما قيل لبذيء اللسان: سفيه؛ لأنه خفيف الهداية.
وقال عليه الصلاة والسلام: «شَارِبُ الخَمْرِ سَفِيهٌ» لقلة عقله.
وقيل: السفيه: الكَذَّاب الذي يعمل بخلاف ما يعلم، وإنما سمّى المنافقون المسلمين بالسُّفهاء، لأن المُنَافقين كانوا من أهل الرياسة، وأكثر المسلمين كانوا فقراء، وكان عند المنافقين أن دين محمد باطلٌ، والباطل لا يقبله إلا السَّفيه، فلهذا نسبوهم إلى السَّفاهة، ثم إنّ الله- تعالى- قلب عليهم هذا القول فقال: {أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ} لوجوه:
وثانيها: أنَّ من باع آخرته بِدُنْيَاهُ فهو السَّفيه.
وثالثها: أنَّ من عادى الله، وذلك هو السَّفيه.
والكلام على قوله: {ألا إِنَّهُمْ هُمُ السفهاء ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ} كالكلام على قوله: {ألا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ} [البقرة: 12].
وقرأ أهل الشام والكوفة {السّفهاء أَلاَ} بتحقيق الهمزتين، وكذلك كل همزتين وقعتا في كلمتين اتفقتا أو اختلفتا، والآخرون يحققون الأولى، ويليّنون الثانية والمختلفتين طلبًا للخفّة فإن كانتا متّفقتين مثل:
{هؤلاء إِن} [البقرة: 31]، و{أَوْلِياءُ أولئك} [الأحقاف: 32]، و{جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} [هود: 101] قرأها أبو عمرو والبزي عن ابن كثير بهمزة واحدةٍ.
وقرأ أبو جعفر، وورش، ويعقوب: بِتَحْقِيق الأولى وتَلْيين الثانية.
وقرأ قَالُون: بتليين الأولى، وتحقيق الثانية، لأن مت يستأنف أولى بالهمزة ممّا يسكت عليه. اهـ. باختصار يسير.